صاحب الغبطة يوسف

رسالة الصوم 2017

٢٢ ٣ ٢٠١٧
رسالة الصوم 2017
"دموعًا أعطني يا الله..."
 
"أردتُ يا ربّ أن أُمحوَ بالدُموع صكَّ زلّاتي. وأُرضيَكَ بالتوبة باقيَ أيام حياتي" (اللحن الرابع من المُعزّي).
بهذا النشيد الروحي نستقبل الصومَ الأربعينيَّ الكبيرَ المُقدَّس. ومع المرأة الخاطئة وصلوات "يا ربَّ القوات"، نهتِفُ: "دموعًا أعطني يا الله، كما أعطيتَ قديمًا المراة الخاطئة. وأهِّلني أن أبُلَّ قدمَيكَ اللتَينِ حرَّرتاني من طريق الضَّلال. وأُقدِّمَ لك كطيبٍ ذكيٍّ، عيشةً نقيَّةً إقتنيتُها بالتوبة. لكي أسمعَ أنا أيضًا صوتَكَ المـُشتهى. إيمانكَ خلَّصكَ! فامضِ بسلام" (من صلاة النوم الكبرى).
معكم أيُّها الأحبَّاء، أريدُ أن أتأمل في قوَّة دموع التوبة، في مسيرة أيَّام الصوم المـُقدَّسة، التي تقودنا إلى أفراح القيامة.
ولهذا فإنَّني في هذه الرسالة سأستعرض من خلال الكتاب المقدَّس ونصوص صلوات آبائنا القديسين، محطاتٍ تُساعدنا على أن نسكُبَ نفوسنا أمام الربِّ يسوع، الذي يدعونا قائلاً: "إذا صُمتَ فادخُلْ مُخدعَكَ. وأغلِقْ بابكَ. وصلِّ لأبيكَ الذي في الخُفيَة. وأبوكَ الذي يرى في الخُفيَة، هو يُجازيك علانيَّةً" (متى 6:6).
يسوع نفسه دمع أكثر من مرَّة في حياته على الأرض. وكانت دموعه تعبيرًا عن رحمته ومحبَّته وعطفه وحنانه وشعوره مع الناس.
 
الدموع في المزامير
إلى هذه الوقفة الحميميَّة مع الله، مع يسوع، تدعونا الكُتُب المـُقدَّسة. فتَضعُ أمامنا أمثلةً على التوبة بالدموع. منها دموع داود النبي التائب الذي وضع المزمور الخمسين تعبيرًا عن توبته بعد خطيئتَيه: القتل والزنى. وتتردَّد عباراتُ توبةٍ ممزوجةٍ بالدموع في الكثير من المزامير المنسوبة إليه. "أعييتُ في أنيني. بدموعي أغسِلُ كلَّ ليلةٍ سريري. وأبُلُّ فراشي. ذبُلَتْ من الغمِّ عينِي" (المزمور 6). وفي المزمور 101 يُعبِّر عن ألم قلبه هكذا: "مِن صوتِ تأوُّهي لَصِقَ عظمي بجلدي... صِرتُ مثل بوم الأخربة... مزجتُ شرابي بدموعي". وفي المزمور 30 يتأوَّه النبي: "قد تلاشتْ في الألم حياتي. وأعوامي من الزَّفرات".
وفي الختام يتنهَّد قائلًا: "متى أجيئُ وأتراءَى أمام الله! لقد صارتْ دموعي هي خبزي وشرابي نهارًا وليلًا" (المزمور 42: 2-3). "فأكلتُ الترابَ مثل الخبز ومزجتُ كأسي بالدموع" (المزمور 102: 7-8-9).
 
الدموع عند الأنبياء
في سفر النبي يوئيل يدعو اللهُ الشعبَ بفم النبي إلى البكاء: "إرجعوا إليَّ بكل قلوبكم. بالصوم والبكاء والنَّوح. مزِّقوا قلوبكم لا ثيابَكم. وارجعوا إلى الربِّ إلهكم. ليبكِ الكهنة خدّام الرب! ويقولوا. أشفقْ يا رب على شعبِكَ! ولا تُسلِّم ميراثكَ للعار" (يوئيل 2: 18،13،12).
ويقول ملاخي عن الكهنة: "يُغطُّون مذبح الرب بالدموع والبكاء والصراخ" (ملاخي 2: 13). والرب يستجيب لبكاء الشعب: "لأنَّك لا تُسرُّ بهلاكنا، فتُلقي السكينة بعد العاصفة، وبعد البكاء والنحيب تُفيضُ التهليل" (طوبيا 3: 22). وتَصِفُ الأسفار المقدَّسة لقاءات تعزية ومُصالحات بين المـُتخاصمين بالدموع والمعانقات الحارة.
          فالدموع تُقرِّبُ إلى الله، وتُقرِّبُ بين المتخاصمين وتُعبِّر عن الندامة والمــُصالحة.
 
          الدموع في العهد الجديد
          في العهد الجديد نرى يسوع نفسه يبكي مرتَين: على صديقه لعازر "ودمع يسوع" (يوحنا 11: 35). ومرَّة أُخرى بكى على أورشليم: "ولما قرُبَ من المدينة بكى عليها" (لوقا 19: 41). والدموع تعبير عن الشكر والندامة: "فصاح أبو الصبي من ساعته بدموعٍ وقال: إنِّي أومن يا رب فأعِنْ قِلَّة إيماني" (مرقس 9: 23). والمرأة الخاطئة "تقف من وراءِ يسوع عند رجلَيه باكية. وجعلت تبُلُّ رجلَيه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها" (لوقا 7: 38). وبطرس "يخرج إلى الخارج ويبكي بكاءً مُراًّ" (لوقا 22: 62) بعد أن أنكر يسوع ثلاث مرَّات قبْل الآلام.
          ويسوع يَعِدُ تلاميذه بأنَّ حزنهم يؤول إلى فرح: "الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم إنَّكم ستبكون وتنوحون، والعالم يفرح وأنتم تحزنون. ولكن حزنكم يأوول إلى فرح" (يوحنا 16: 20).
          بولس يبكي ناصحًا المسيحيين الأوائل: "فاسهروا إذن وتذكَّروا أنِّي مُدَّة ثلاث سنين لم أُكفَّ ليلاً ونهاراً من أن أنصَحَ كلَّ واحدٍ منكم بالدموع" (أعمال 20: 31). ويقول أيضًا عن يسوع: "في أيام بشريَّته قرَّبَ تضرعاتٍ وتوسلاتٍ بصراخٍ شديدٍ ودموعٍ إلى القادر أن يُخلِّص من الموت. فاستُجيبَ له بسبب الاحترام" (عبرانيون 5: 7).
وفي سفر الرؤيا يمسح الله دموع المؤمنين به: "لأنَّ الحمل الذي وسط العرش يرعاهم ويُرشدهم إلى ينابيعِ ماءِ الحياة. ويَمسَحُ الله كلَّ دمعةٍ من عيونهم. ولا يكون بعدُ موتٌ ولا نوحٌ ولا صراخٌ ولا وجعٌ لأنَّ ما كان سابقًا قد مضى" (رؤيا 7: 17، 21: 4).
وهناك البكاء بسبب خطايا الآخرين: "فاضتْ من عينيَّ مجاري مياه لأنَّهم لم يحفظوا شريعتك" (مزمور 118: 136). "تبكي نفسي في الخُفية على كبريائكم. وتستعبر عينيَّ استعبارًا وتسيلُ الدموع لأنَّ قطيع الرب قد سُبِيَ" (أرميا 13: 17). ويقول بولس لأهل كورنثس: "إنِّي أخشى أن يُذِلَّني إلهي بينكم إذا قدمتُ إليكم مرَّةً أُخرى وأنوحُ على كثيرين من الذين خطئوا ولم يتوبوا عمَّا صنعوا من النجاسة والزنى والفسق" (2 كورنتس 12: 21). ويُحرِّضُ القديس يعقوب في رسالته الجامعة قائلاً: " نقُّوا أيديَكم أيها الخطاة. إكتئبوا. أبكوا. ونوحوا" (يعقوب 4: 8، 9).
 
          الدموع في الأناشيد الطقسيَّة
في صلوات تقدمة الأعياد الكبرى (الميلاد – الغطاس) دعواتٌ مُتكرِّرة إلى البكاء: "فلنُفرِغ الدُّموع كطيوبٍ للمسيح المولود. ولنُطهِّر أجسادنا من الأدناس". (صلاة النوم الصغرى 22 كانون الأوَّل).
 وتتردَّدُ عباراتُ البكاء في أناشيد "المراقي" في صلاة سحر الآحاد: "إنَّ الذين يزرعون في الجنوب بدموعٍ إلهيَّةٍ، سيحصُدون بالفرح سنابل الحياة الدائمة" (اللحن الثاني – القسم الأوَّل). "إنَّ الذي يزرع في الجنوب الأحزان والأصوام والدموع. سيحصُد أغمار الفرح غذاءً للحياة الدائمة" (اللحن السابع – القسم الأوَّل). مع العِلم أنَّ أناشيد المراقي هي مُستقاة من مزامير المراقي التي تُتلى في رتبة البروجيزمانا – أو الأقداس السابق تقديسُها.
كتاب المُعزّيعلى الألحان الثمانية هو مدرسة الدموع والعَبَرات والندامة والتخشُّع. وهذه بعض مقتطفات منه. "داود كان ينوح على خطيئتَين ويَبُلُّ بالدموع فراشه... وأنا ليس لي عَبْرَةٌ واحدة" (سحر الإثنين – اللحن الثاني). صلوات سحر أيام الإثنين والثلاثاء من أسابيع المعزّي الثمانية تزخر بالصلوات الخشوعيَّة، وعنوانها خشوعيّات. إنَّها مدرسة الخشوع والتوبة.
-                     "عزمتُ يا رب أن أمحوَ بالدموع صكَّ زلّاتي. وأسترضيَك بالتوبة باقيَ حياتي! لكن العدّو يستغويني، ويُحارِبُ نفسي (سحر الإثنين – اللحن الرابع). إغسلني بدموعي أيها المـُخلِّص" (سحر الإثنين، جلسة المزامير – اللحن الرابع).
تتوجَّهُ الصلوات إلى يوحنا المعمدان لكي يجود على المصلِّي التائب بينابيع التوبة. "لا توبةَ لي ولا دموعَ" (غروب الإثنين مساءً – اللحن السادس).
تقريبًا كلَّ يوم نجد عباراتِ الدموع في صلوات المعزّي على مدى الألحان الثمانية. مرارًا كثيرة تُذكَر بنوعٍ خاصٍ دموع بطرس والخاطئة. وتُذكَر مرارًا عبارة "دموع التوبة". "مُرويًا نفسي بدموع التوبة" (اللحن السابع – آخر سحر الثلاثاء).
أمَّا كتاب التريوذيون الخاص بمرحلة الصوم الأربعيني المقدَّس الكبير فهو مدرسة أُخرى لروحانيَّة الدموع.
                    في أحد الفريسي والعشَّار نقرأ: "لنتَّضِع كلُّنا أيها الإخوة المؤمنون. وبتنهداتٍ وزفراتٍ نقرع ضميرنا" (البيت). وتتردَّدُ الدعوة إلى التشبُّه بتنهُّد العشَّار: "لنقتدينَّ كلُّنا بتنهُّد العشَّار. ولنصرخ إلى الله بدموعٍ حارةٍ..." (التسبحة الثامنة). "إنَّ الإله مال إلى تنهُّد العشَّار وبرَّره. وعلَّم الجميع أن ينحنوا دائمًا. طالبين بدموعٍ وزفراتٍ حلَّ الجرائم" (التسبحة الثامنة).
                   الابن الشاطر هو النموذج الكبير للتوبة والدموع. نقرأ في أحد الابن الشاطر: "أنظُر أيها المسيح حزن قلبي. شاهد جوعي. أنظُر يا مُخلِّصُ دموعي" (التسبحة التاسعة).
وفي أسبوع مرفع الجبن نقرأ: "لنُقدِّم للذي تواضع لأجلنا صيامًا وصلاةً. ودموعًا وخُلقًا وضيعًا" (الجمعة – التسبحة الخامسة). وترِدُ مِرارًا كلمة "العبرات" أي الدموع، وهي الوسيلة النافعة لخلاص النفس. ونقرأ مِرارًا: ما أقوى الدموع!
          وفي أحد مرفع الجبن، وهو أحد ذكرى طرد آدم من الفردوس، تصِفُ الصلوات آدم باكيًا. مُنتحِبًا (قطع الغروب)، ونقرأ: "هلُمَّ أيتها النفس الشقيَّة. إبكي اليوم أعمالكِ" (التسبحة الأولى من قانون الأحد). "هلُمَّ نُقدِّم ونحن صيام دموعًا وتوبةً وصَدَقةً" (أحد الجبن – القانون – سحر جلسة المزامير). وتدعو الصلوات الخليقة كلَّها إلى البكاء: "نوحي عليَّ يا طغمات الملائكة. ويا ما في الفردوس من الأشياء الجميلة والغراس البديعة." (أحد مرفع الجبن – التسبحة الرابعة). "أيتها الروضة السعيدة. والغراسُ التي نصَبَها الله. والفردوس البَهِج. سُحّي عليَّ عبراتٍ من أوراقكِ كَمِنْ عيون. أنا العريانَ والغريبَ عن الله" (التسبحة الرابعة). "عند مشاهدتي عُريي بسبب المعصية. أنوحُ وأُقرِّعُ نفسي. وأستدرُّ من عيني مزيدًا من العبرات (التسبحة الخامسة). "إنَّ آدم جلس إزاءَ نعيم الفردوس. وانتحب لاطمًا وجهه بيَديه قائلاً: يا رحيم ارحمني أنا الواقع (البيت).
وأضيفُ مِن أحد مرفع الجبن هذه الصلاة الجميلة على فم آدم: "إنَّ آدمَ صرخَ باكيًا وَيْلي. لأنَّ الحيَّةَ والمرأةَ اقصَتاني عن الدالةِ الإلهيَّة. ومَذاقةَ العودِ أبعدَتْني عن نعيمِ الفردوس. وَيْلي. لستُ أحتمِلُ العارَ إذًا. وقد كنتُ من قَبلُ مَلِكًا على جميعِ مخلوقاتِ الله الأرضيَّة. فأَمسَيتُ الآن أسيرًا بمشورةٍ مُنْكَرةٍ. وقد كنتُ حِينًا ما مُتسَرْبِلاً مجدَ عدمِ الموت. فأضحَيْتُ كمائتٍ مُتَّشِحًا أديمَ الموت بحالةٍ يُرثى لها. وَيْحي. بِمَن أستَعينُ ليَبكيَ معي. لكن يا مُحِبَّ البشرِ المتدرِّع الشَّفَقَة. يا جابلي من الأرض. جدِّدْ حياتي. وخلِّصني من عبوديَّة العدوّ" (أحد مرفع الجبن، القطعة الأولى من قطع الباكريَّة - سحر الأحد).
                    الدعوة تتكرَّر لِمزجِ الدموع بالصلاة: "بإقبالنا على ميدان الصيام الطاهر. هلُمَّ نُبادر كلُّنا إلى تذليل البَشَرة بالإمساك. ولنَطلُبْ الربَّ مخلِّصنا بالدموع والصلوات. ولننسَ الشرور كلَّ النسيان" (أحد مرفع الجبن مساءً). وأيضًا: "كيف لا أبكي عُريي وأيَّ ابتداءٍ أصنع لخلاصي؟ (سحر إثنين أسبوع مرفع الجبن – التسبحة الأولى). وأيضًا: "أيها المسيح امنحني في نهار هذا الصيام المُطرِب. وابلَ عبراتٍ لكي أنوحَ وأغسلَ الدنس الناشئَ عن اللذات. وأظهَرَ لديكَ نقيًّا (اليوم الأوَّل من الصوم – الإثنين مساءً).
          ويمتاز قانون التوبة الكبير الذي يُتلى في الأسبوع الخامس من الصوم، بالدعوة إلى البكاء. هكذا نقرأ: "أيها المسيح! كيف أشرُعُ في النَوح على أفعالِ عمري الشقي؟ وكيف أبدأُ المناحة الحاضرة؟ " (التسبحة الأولى). "يا حملَ الله الرافعَ خطايا الجميع. إرفعْ عنِّي غِلَّ الخطيئة الثقيل وامنحني دموع الانسحاق" (التسبحة الأولى). "أهتِفُ إليكَ كالزانية: خطئتُ إليكَ أنا وحدي. فاقبل يا مُخلِّص دموعي أيضًا كطيبٍ" (التسبحة الثانية). إنَّني زَلَقتُ كداود بالفجور وتدنَّستُ فاغسلني أنا أيضًا بالعبرات أيها المخلِّص" (التسبحة الثامنة). "أيها المخلِّص ليس عندي دموعٌ ولا توبةٌ ولا خشوعٌ. فامنحني إياها أنتَ بما أنَّكَ الإله" (التسبحة الثامنة). "أيها المخلِّص أنصتْ إلى تنهُدات نفسي. واقبل قطرات مُقلتيَّ وخلِّصني" (التسبحة الثامنة).
                   صلوات أعياد القديسينعلى مدار السنة تزخرُ أيضًا بوصف دموعهم وتوبتهم وبكائهم. منها النشيد للأبرار والنُسَّاك: "بسيولِ دموعكَ أخصب القفرُ العقيم. وبزفراتكَ العميقة أثمرتْ أتعابُكَ مِئةَ ضعفٍ". وتتوجَّه الأناشيدُ إلى بولس الثيبي (الصعيدي) أوَّلِ النُسَّاك بهذه العبارة: "قضَيتَ عمرَكَ كلَّه بالدموع والضيق. لذلك أنتَ الآنَ تتمَتَّعُ بالتعزية الإلهيَّة والسرور الخالد" (صلاة الغروب 15 كانون الثاني).
 
الدموع في التراث النسكي
أُعِدُّ هذه الرسالة أثناء إقامتي السنويَّة في مصر. وقد زرتُ دير الأنبا مقار (أو مكاريوس) حيث عاش الراهب المشهور متى المسكين (1919-2006). وتصفَّحتُ كتابه بعنوان: "حياة الصلاة الأرثوذكسيَّة" (1976)، وفيه الفصل السابع بعنوان: "الدموع". ورأيتُ من المفيد أن أستقي بعض الأمور الجميلة حول موضوع هذه الرسالة مع سَرْدِ بعض أقوال الآباء النُسَّاك في الدموع.
"من الصعب أن نتحدَّث عن الدموع! أليست هي علامة قصور الكلام؟ فحينما يعجِزُ اللِسانُ عن التعبير مُتحيِّرًا، يتحدَّثُ القلبُ فتنطِقُ العيون بكلام الدموع!
"مَن يستطيعُ أن يُفسِّرَ هذه اللغة؟ إنَّها المشاعرُ كلُّها مذابةٌ في نقطةٍ! هي لِسانٌ يتكلَّمُ بجميعِ اللغات! إنَّها لغة النفس المفعَمَة بأصدَقِ المشاعر.
"هي عزاءُ المظلوم، ووطنُ الغريب، وأبُ اليتيم. هي تكفيرُ الذنوب، وعلامةُ الندامة، وعهدُ التوبة.
"هي غسلُ القلب، وتطهيرُ الأعضاء، وشِفاءُ النفس المريضة.
"هي لغةُ الروح، وصلاةُ الصامت، واحتقار العالم، والحَنينُ إلى السماء، وانتظارُ الموت.
"وإن كانت الدموع سُخريَة عند ذوي القلوب المقفلة برِباط المشاعر الحديديَّة إلّا أنَّها إذا اصطدمت بالقلوب الرحيمة أذابتها ذوبًا!
"ولكن ما لنا وقلوب البشر. ألا يكفي الدموع فخرًا أنَّها تدخُلُ إلى حضرة القدير لتتحدَّثَ أمامَهُ؟ «قد سمعتُ صلاتَكَ. قد رأيتُ دموعَكَ».
"وإن كانت لا تُحرِّكُ قلوب القُساة، فهي تُزلزلُ أعتابَ السماء!
"وهي إن كانت لا تقوى أن تُغيِّر صلابة الرؤساء إلَّا أنَّها تستطيعُ أن تغلِبَ تحنُّن الله! «حوِّل عنِّي عينَيك فإنَّهما قد غلبتاني» (نش 6: 5).
"إيه أيتها الدموع كم أنتِ حقيرة في أعيُنِ الفلاسفةِ وعلماءِ النفس حتى جعلوكِ علامةَ الضُعفِ وانحلالِ الشخصيَّة! ولكن ألا يكفي الدموعَ فخرًا أنَّ السيِّد الرب طوَّبَ العيونَ التي تتحلَّى بها: «طوباكُم أيها الباكون» (لو 6: 21).
"يُحدِّثُنا القديس يوحنا الدَّرجي (أو السلمي) عن اختباره الدموع فيقول: «إنَّها أُم وبنتُ الصلاة»!. وهذا حق، فالدموعُ تسوقُنا إلى مخادِعِ الصلاة. وهناكَ نؤتَمَنُ على ينابيع الدموع الحيَّة لِنذرِفَ منها ما شاء لنا البكاء! «يا لَيتَ رأسي ماءٌ وعينيَّ ينبوعُ دموع، فأبكي نهارًا وليلًا...» (أر 9: 1)." (الأب متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسيَّة، الطبعة الرابعة، 1976، ص. 520-521).
"الأب اسحق تلميذ الأنبا أنطونيوس في حواره مع كاسيان، الحوار 9 فصل 28، 29، 30 و31. يتكلَّم عن الدموع ونستطيع أن نُلخِّص أهم مبادئ الأب اسحق كالتالي:
أولًا:تُعتَبَرُ الدموعُ تعبيرًا مُلازمًا للدوافع الصحيحة للصلاة التي تنبَثِقُ مِن أعماق النفس وتظهَرُ فجأةً فتغمُرُ النفس وتملأُها بسرورٍ مُفرطٍ يَصعُبُ ضبطُه كما يَصعُبُ التعبيرُ عنهُ أمام الله إلَّا بالدموعِ الغزيرةِ التلقائيَّة.
ثانيًّا:ولأنَّه توجدُ دوافعُ كثيرةٌ صحيحةٌ للصلاةِ، فبالضرورة أصبحَ يوجدُ أنواعٌ كثيرةٌ للدموعِ لأنَّ كلَّ دافعٍ صحيحٍ للصلاة يُلازِمُهُ إحساسٌ مُعيَّنٌ لهُ ما يُناسِبُهُ من الدموع!
ثالثًا:توجدُ خمسةُ أنواعٍ رئيسيَّةٍ من الدوافع الصحيحة للصلاة وبالتالي أصبحَ يوجدُ خمسةُ أنواعٍ صحيحةٍ مِن الدموعِ المثمِرة:
1.    دموع الشعور بنخسِ الخطايا وهي دموعٌ تَكسِرُ القلبَ باعثةً الحُزنَ.
2.    دموع التأمُّل في صلاح الله والأمجادِ المزمعة المعدَّةِ لنا. وهذا النوع من الدموع ينابيعه غزيرةٌ ووافرةٌ ومُبهِجةٌ للقلب وباعثةٌ للرجاء.
3.    دموع الرَعبة من جهنم والدينونة التي لا يكون لها أي صِلة بدموع نخس الخطايا.
4.    دموع على الآخرين، وهي شديدة الكآبة. (على أن تكون خالية من أي دينونة أو نقمة).
5.    دموع الضِّيقة التي يُعانيها مساكينُ الله من جرَّاءِ تعسُّفِ العالَم والظالِمين." (الأب متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسيَّة، الطبعة الرابعة، 1976، ص. 527-528).
 
ويوردُ الراهب متى المسكين أقوال الآباء في الدموع:
"الدموع الدائمة أثناءَ الصلاة علامة على الرحمة الإلهيَّة التي وُهِبَتْ للنفس كنتيجةٍ لقبولِ توبتِها.بهذه الدموع تُؤهَّلُ النفسُ للدخولِ في نورِ صفاءِ الأبديَّة" (المرجع عينه، ص. 537).
"الدموعُ أثناء الصلاة هي علامةُ الحياةِ الطيِّبة، وهي موهبةٌ كبيرة. إسألوا هذه النعمة من الله، أُسكبوا أمامَهُ الدموع لِتصيرَ صلاتُكم كالبخورِ قدَّامه" (مار أفرام السرياني - المرجع عينه، ص. 538).
"كلُّ مَن يَقرِنُ الصلاةَ بالدموعِ، فقد جنى أوَّل ثمارها واستحقَّ قبول بقيَّةِ ثمارها. أمَّا مَن عَدِمَ البكاء في الصلاة، فقد عَدِمَ ثمارها أيضًا" (الأسقف أغناطيوس (ب.) - المرجع عينه، ص. 539).
"العينُ الباكية هي جرنٌ دائمٌ لمعموديَّةِ التوبةِ والتجدُّد. لو لم يهبْنا الله نعمة الدموع لَتعذَّرَ خلاصُ الكثيرين" (الأب يوحنا الدرجي (أو السلَّمي) - المرجع عينه، ص. 540).
"ليس مَن بكى على ما شاء قد وَصَلَ إلى البكاء، وإنَّما الباكي حقًا هو مَن بكى بمشيئةِ الله!"
"يا أحبَّائي. الله لا يُسَرُّ ببكائِنا ووجع قلبنا، بل هو يُريدُ أن نفرحَ معهُ دائمًا ولا أحد ينزعُ فرحنا منَّا. فهو لم يَخلُقْ آدم باكيًا. ولا جعلَ البكاءَ مِن طبيعتنِا بعد القيامة. وإنَّما طوَّبَ الباكين الآن لأنَّ البكاءَ يَغسِلُ جرحَ الخطيئةِ ويُجفِّفه" (المرجع عينه، ص. 541).
 
روحانيَّة الطقوس
هذه الرسالة هي ثمرة تواصلي مع صلواتنا الطقسية. بالأسف، هناك انفصام بين روحانيَّة الصلوات الطقسيَّة وروحانيَّة الشخص (الفرد). إنَّنا لا نعيش من روحانيَّة طقوسنا. تُعتَبَرُ طقوسنا وصلواتنا وكأنَّها غريبة عن روحانيتنا وعن حياتنا. ولذلك فكثيرون، بأسف، لا يُصلّون الصلوات الطقسيَّة أو يُصلّون صلوات خاصة بهم. آباؤنا هم معلِّمونا في الإيمان والتقوى... وطقوسنا هي كتبنا الروحيَّة، ومُطالعتنا الروحيَّة اليوميَّة... لا بل الصلوات اليوميَّة الطقسيَّة هي السبيل الأكثر سهولةً لكي نطَّلِع على كتابات الآباء وسِيَر القديسين وأمثلة حياتهم. لأنَّ واضعي الأناشيد الطقسيَّة والتسابيح، كانوا يُطالعون كُتُبَ الرهبان والقدِّيسين، ومِن خلال تأملهم بها كانوا يستلهمونها لِنَظْمِ أشعارهم وأناشيدهم الطقسيَّة التي وصلت إلينا.
 
الصلاة الطقسيَّة لقاءٌ مع القديسين
هذا الأمر ينطبق على موضوع رسالة الصوم حول الدموع. ولهذا السبب أعودُ وأُكرِّرُ الدعوة إلى أبناء وبنات كنيستنا الروميَّة الملكيَّة، لاسيما الإكليروس والرهبان والراهبات وكهنة الرعايا أن لا يُهمِلوا الصلوات الطقسيَّة اليوميَّة. وأن يُشرِكوا الِعلمانيين فيها في الأعياد السيِّديَّة وأعياد كبار القديسين الرهبان وآباء الكنيسة. الصلوات اليوميَّة هي بمثابة قراءة يوميَّة في الكتاب المقَّدس، في عهدَيه القديم والجديد، وفي كُتُب ومؤلَّفات الآباء القدِّيسين.
 
لغة الدموع
البكاء لغة! إنَّه تعبيرٌ صامتٌ فصيحٌ عميقٌ عن المشاعر الأكثر حساسيَّة في الإنسان. هكذا كان بكاء المرأة الخاطئة. وهكذا كان بكاء بطرس الرسول. وعندما يعجِزُ الكلام عن التعبير عن المشاعر، تتفجَّر ينابيعُ البكاء من المآقي بفعلٍ جسديٍّ وروحيٍّ في آنٍ واحدٍ. فتبكي العينان. ويبكي القلب. ويبكي الإنسان كلُّه. والصلاة هي الوقت الأكثر مناسبةً للتعبير عن عمق المشاعر بالبكاء.  
 
أبكوا مع الباكين!
يُحرِّضنا بولس الرسول قائلًا: "أبكوا مع الباكين وافرحوا مع الفرحين" (رسالة إلى الرومانيين 12: 15). كم من باكين وحزانى ومجروحين ومرضى ومتألِّمين وجياع وعطاش في مجتمعنا، ولاسيما اليوم في مشرقنا الرازح تحت كابوس الإرهاب والعنف والحرب والتكفير والقتل والإجرام...
أمام هذا العالم المعنَّف نحتاج إلى كمٍّ كبيرٍ من الدموع. وكأنَّنا مثل راحيل تبكي اطفالها بعد مذبحة بيت لحم، ولا تريدُ أن تتعزَّى.
الصيام مرحلة مقدَّسة ووقت مقبول للبكاء مع الآخرين من خلال الاعمال الصالحة.، ولاسيما التضامن مع كلِّ مَن يحتاج إلى محبتنا وعطائنا وخدمتنا وتضحياتنا. لتكن دموعنا، دموع التوبة، واللقاء مع الله، والمحبة، لتكن سبيلنا إلى القريب وإلى كلِّ محتاج. إلى هذا يدعونا البابا فرنسيس في رسالته عن الصوم للعام 2017: "والصوم هو الزمن الملائم لفتح الباب لكلِّ محتاجٍ ونرى فيه أو فيها وجه المسيح. كلٌّ منَّا يلتقي بهم في مسيرته الشخصيَّة. كلٌّ حياة نلتقي بها هي عطية، تستحق الاستقبال والاحترام والمحبَّة"
وإلى هذا تدعونا صلواتنا الطقسيَّة على مدى أسابيع الصوم، لكي نقرن الدموع بالتوبة والندامة والصلاة والتقرُّب إلى الله واللقاء معه. نَقرِنُ كلَّ ذلك بأعمال المحبة والرحمة. هكذا نقرأ: "هلُمَّ نُطهِّر نفوسَنا بالصَّدَقات والرأفةِ بالبائسين. ولا نَنفُخْ بالبوق. ولا نَشْهَرْ إحساننا. ولا تَعلَمْ الشِّمالُ ما تصنعُهُ اليمين. ولا يُبدِّدِ المجدُ الباطلُ ثمرة الصَّدَقة. بل لِنصرُخ خِفيةً نحو عالِمِ الخفايا: أيُّها الآبُ اترُكْ لنا هفواتَنا. بما أنَّك محبٌّ للبشر" (الأحد الأوَّل من الصوم - آيات آخر الغروب). "لِنَصُمْ الصومَ الروحيّ. ونُمزِّقْ كلَّ شِرْك. ونَهربْ من شكوكِ الخطيئة. ونَغفِرْ لإخوتِنا ذنوبَهم. لكي تُغفَرَ لنا ذنوبُنا. وحينئذٍ يُمكنُنا أن نهتِف: لِتَسْتَقِم صلاتُنا كالبخور أمامكَ يا رب" (الأسبوع الثاني من الصوم، الإثنين، آيات آخر الغروب).     
 
الكآبة الفرِحة!
مرحلة الصيام كانت في الأساس وقتَ الاستعداد المباشر للاحتفال بعيد الفصح. والقيامة المجيدة والمعموديَّة المقدَّسة.
ولهذا فالصوم هو مرحلة استعداد لعيد الأعياد وموسم المواسم ولأكبر فرحة روحيَّة التي تبعث فينا نشوة روحيَّة عندما نهتف معًا المسيح قام!
بكاؤنا هو استعداد للفرح: فرح التوبة. فرح الندامة. فرح الاعتراف بخطايانا. فرح اللقاء مع الرب يسوع، ومع القريب. الفرح الذي هو ثمرة الدموع. إنَّه كما يقول لنا البابا فرنسيس: "فرح الإنجيل الذي يملأ قلبَ وكلَّ حياة جميعِ الذين يلتقون يسوع. أولئك الذين ينقادون له يُحرِّرُهم من الخطيئةِ والحزنِ والفراغِ الداخليّ والعزلة. إنَّ مجازفة عالم اليوم الكبيرة بما يُقدِّمُ من استهلاكٍ عديدٍ وساحق، هو حزنٌ فرداني نابعٌ من قلبٍ متربِّعٍ وبخيل، نابعٌ من البحث السخيف عن ملاذَّ سطحيَّة، من ضميرٍ منعزلٍ عندما تنغلقُ الحياة الداخليَّة على مصالحها الذاتيَّة، يفقَدُ محلُّ الآخرين. فلا الفقراءُ يدخلون، ولايُسمعُ صوتُ الله، ولا يُتمتَّع بفرح حبِّ العذب، ولا يعودُ يَنبِضُ حماسُ فعلِ الخير. حتى المؤمنون يتعرَّضون لهذه المجازفة الأكيدة والدائمة. كثيرون يرزحون تحت عبئها ويتحوَّلون إلى أناس مفكِّرين، مستائين، لا حياة فيهم. ليس في ذلك اختيار حياة كريمة وملأى، ولا هذا ما يرغبه الله لنا. وليست هذه الحياة في الروح النابع من قلب المسيح القائم من بين الأموات" (فرح الإنجيل 1-2).
 
أيُّها الأحبَّاء!
لكم جميعًا هذه الوجبة الصياميَّة! إنَّها باقةٌ روحيَّةٌ صياميَّةٌ، قطفتها لكم من الفردوس الجميل الذي نعود إلى سكناه بالصوم والاعمال الصالحة: فردوسُ كلمةِ الله ومناسكِ الرهبان وعَبْقِ بخور كنائسنا التي ترتفِعُ منها صلوات الصوم المبارك. وأتمنى لكم صومًا مباركًا يقودُنا إلى أفراح عيد القيامة المجيدة التي نفرحُ هذا العام بنوع خاص بها لأنَّنا سنُعيِّدها معًا، جميع المسيحيين شرقًا وغربًا. ونأمل أن يكون فصحُ هذا العام مقدمةً لعيدٍ مشتركٍ واحدٍ موحَّدٍ لجميع المسيحيين.
ونطلب شفاعة أمّنا مريم العذراء لتباركَ صيامنا ونتضرَّع إليها لأجلنا ولأجلِّ كلِّ إنسانٍ يحتاجُ إلى الفرح مع صلوات الباركليسي الجميلة: "لا ترفُضي مجاري دموعي يا نقيَّة. يا مَن ولدتِ المسيحَ إلهَنا. الذي انتزعَ من كلِّ وجهٍ كلَّ دمعةٍ. إملئي قلبي فرحًا أيَّتها العذراء. التي فيها قد حلَّ مِلءُ الفرح. وأقضي عنِّي بعيدًا حُزنَ الخطيئة" (التسبحة التاسعة).
صيام مبارك ومقدَّس! يقودنا بالدموع إلى أفراح القيامة!
 
مع محبَّتي وبَرَكَتي
+ غريغوريوس الثَّالث
 
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك